الأربعاء
مارس 2020
قال الإمام الشيخ الألباني – رحمه الله – بعد أنْ
بيَّن أنه مُتَّبِع للسُّنَّة الصحيحة : ( وهو الذي سلكه السلف الصالح من الصحابة
والتابعين ومن بعدهم ، وفيهم الأئمة الأربعة – الذين ينتمي اليوم إلى مذاهبهم
جمهور المسلمين – وكلهم متفق على وجوب التمسك بالسنة والرجوع إليها ، وترك كل قول
يخالفها ، مهما كان القائل عظيماً ؛ فإنَّ شأنه صلى الله عليه وسلم أعظم ، وسبيله
أقوم ، ولذلك ؛ فإني اقتديت بهداهم ، واقتفيت آثارهم ، وتبعت أوامرهم بالتمسك
بالحديث ، وإنْ خالف أقوالهم ، ولقد كان لهذه الأوامر أكبر الأثر في نهجي هذا
النهج المستقيم ، وإعراضي عن التقليد الأعمى ، فجزاهم الله عني خيراً .
أقوال
الأئمة في اتِّباع السُّنَّةِ وتَركِ أقوالِهم المخالفَةِ لها
ومن المفيد أنْ نسوق هنا ما وقفت عليه منها أو
بعضها ، لعلَّ في ذلك عِظةً وذكرى لمن يقلدهم – بل يقلد من دونهم بدرجات تقليداً
أعمى – ويتمسك بمذاهبهم وأقوالهم كما لو كانت نزلت من السماء ، والله عز وجل يقول
: { اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إليكم من ربِّكُم ولا تتَّبِعُوا مِن دُونِهِ
أَوْلِيَاءَ قليلاً ما تَذَكَّرُونَ } .
- 1 – أبو حنيفة – رحمه الله – :
فأولهم الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت – رحمه
الله – ، وقد روى عنه أصحابه أقوالاً شتَّى وعبارات متنوعة ؛ كلها تؤدي إلى شيءٍ
واحد وهو : وجوب الأخذ بالحديث ، وترك تقليد آراء الأئمة المخالفة له :
1 – ” إذا صح الحديث فهو مذهبي ” .
2 – ” لا يحل لأحد أنْ يأخذ بقولنا ما لم يعلم
مِن أين أخذناه ” . وفي رواية : ” حرام على مَن لم يعرف دليلي أنْ يُفتي
بكلامي ” ، زاد في رواية : ” فإننا بَشَر ، نقول القول اليوم ونرجع عنه
غداً ” ، وفي أخرى : ” ويحك يا يعقوب ! – هو أبو يوسف – لا تكتب كل ما
تسمع مني ، فإني قد أرى الرأي اليوم وأتركه غداً ، وأرى الرأي غداً وأتركه بعد غدٍ
” .
3 – ” إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى
وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي ” .
- 2 – مالك بن أنس – رحمه الله – :
وأما أنس بن مالك – رحمه الله – فقال :
1 – ” إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في
رأيي ؛ فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه ، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه
” .
2 – ” ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم
إلا يؤخذ مِن قوله ويُترك ؛ إلا النبي صلى الله عليه وسلم ” .
3 – قال ابن وهب : سمعت مالكاً سئل عن تخليل أصابع
الرِّجلين في الوضوء ؟ فقال : ليس ذلك على الناس . قال : فتركته حتى خفَّ الناس ،
فقلت له : عندنا في ذلك سنة ، فقال : وما هي ؟ قلت : حدثنا الليث بن سعد وابن
لهيعة وعمرو بن الحارث عن يزيد بن عمرو المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن
المستورد بن شداد القرشي قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلُك بخنصره ما
بين أصابع رجليه . فقال : إنَّ هذا الحديث حسن ، وما سمعت به قط إلا الساعة . ثم
بعد ذلك يُسأل ، فيأمر بتخليل الأصابع .
- 3 – الشافعي – رحمه الله – :
وأما الإمام الشافعي – رحمه الله – فالنقول عنه في
ذلك أكثر وأطيب ، وأتباعه أكثر عملاً بها وأسعد ، فمنها :
1 – ” ما مِن أحد إلا وتذهب عنه سنة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وتعزُب عنه ، فمهما قلتُ مِن قول ، أو أصَّلتُ مِن أصلٍ
فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت ؛ فالقول ما قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، وهو قولي ” .
2 – ” أجمع المسلمون على أنَّ مَن استبان له
سُنَّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لم يحلّ له أنْ يدعها لقول أحد ” .
3 – ” إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوا ما قلت
” . وفي رواية : ” فاتبعوها ، ولا تلتفتوا إلى قول أحد ” .
4 – ” إذا صح الحديث فهو مذهبي ” .
5 – ” أنتم – يعني أحمد – أعلم بالحديث
والرجال مني ، فإذا كان الحديث الصحيح ، فأعلموني به أي شيء يكون : كوفيَّاً أو
بصريَّاً أو شاميَّاً ؛ حتى أذهب إليه إذا كان صحيحاً ” .
6 – ” كل مسألة فيها الخبر عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلتُ ، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي
” .
7 – ” إذا رأيتموني أقول قولاً ، وقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم خلافه ؛ فاعلموا أنَّ عقلي قد ذهب ” .
8 – ” كل ما قلتُ ؛ فكان عن النبي صلى الله
عليه وسلم خلاف قولي مما يصح ، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ، فلا
تُقلِّدوني ” .
9 – ” كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
فهو قولي ، وإنْ لم تسمعوه مني ” .
- 4 – أحمد بن حنبل – رحمه الله – :
وأما الإمام أحمد ؛ فهو أكثر الأئمة جمعاً للسنة
وتمسكاً بها ، حتى ” كان يَكره وضع الكتب التي تشتمل على التَّفرِيع والرَّأي
” ، ولذلك قال :
1 – ” لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي
ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ مِن حيث أخذوا ” .
وفي رواية : ” لا تقلد دينك أحداً مِن هؤلاء ،
ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فخذ به ، ثم التابعين بَعْدُ الرجلُ
فيه مُخيَّر ” . وقال مرة : ” الإتباع أنْ يتبع الرجل ما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه ، ثم هو من بعد التابعين مخير ” .
2 – “رأي الأوزاعي ، ورأي مالك ، ورأي أبي
حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، وإنما الحجة في الآثار ” .
3 – ” مَن ردَّ حديث رسول الله صلى الله عليه
وسلم ؛ فهو على شفا هَلَكة ” .
تلك هي أقوال الأئمة رضي الله تعالى عنهم في الأمر
بالتمسك بالحديث ، والنهي عن تقليدهم دون بصيرة ! وهي من الوضوح والبيان بحيث لا
تقبل جدلاً ولا تأويلاً ، وعليه ؛ فإن من تمسك بكل ما ثبت في السنة ولو خالف بعض
أقوال الأئمة ؛ لا يكون مُبايناً لمذهبهم ، ولا خارجاً عن طريقتهم ، بل هو متَّبِع
لهم جميعاً ، ومتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ، وليس كذلك مَن ترك السنة
الثابتة لمجرد مخالفتها لقولهم ، بل هو بذلك عاصٍ لهم ، ومُخالِف لأقوالهم
المتقدمة ، والله تعالى يقول : { فلا وربك لا يؤمنون حتى يُحكِّموك فيما شجر بينهم
ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلِّموا تسليماً } ، وقال : { فليحذر
الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذابٌ أليم } .
قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله تعالى – :
” فالواجب على كل من بلغه أمر الرسول صلى الله
عليه وسلم وعرفه أنْ يبيّنه للأمة ، وينصح لهم ، ويأمرهم باتباع أمره ، وإنْ خالف
ذلك رأي عظيم مِن الأمة ، فإن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أنْ يُعظَّم
ويُقتدى به مِن رأي أي مُعظَّم قد خالف أمره في بعض الأشياء خطأ ، ومِن هنا ردَّ
الصحابة ومَن بعدهم على كل مخالِف سنة صحيحة ، وربما أغلظوا في الرَّدِّ لا بغضاً
له ، بل هو محبوب عندهم مُعظَّم في نفوسهم ، لكن رسول الله أحب إليهم ، وأمره فوق
أمر كل مخلوق ، فإذا تعارض أمر الرسول وأمر غيره ، فأمر الرسول أولى أنْ يُقدَّم
ويُتَّبَع ، ولا يمنع ذلك تعظيم مَن خالف أمره وإنْ كان مغفوراً له ، بل ذلك
المخالف المغفور له لا يكره أنْ يُخالَف أمره إذا ظهر أمر الرسول صلى الله عليه
وسلم بخلافه ” .
قلت – والقائل الألباني – : كيف يكرهون ذلك وقد
أمروا به أتباعهم كما مر ، وأوجبوا عليهم أنْ يتركوا أقوالهم المخالفة للسنة ؟ بل
إنَّ الشافعي – رحمه الله – أمر أصحابه أنْ ينسبوا السنة الصحيحة إليه ولو لم يأخذ
بها ، أو أخذ بخلافها ، ولذلك لما جَمَعَ المحقق ابن دقيق العيد – رحمه الله –
المسائل التي خالف مذهب كل واحد مِن الأئمة الأربعة الحديث الصحيح فيها انفراداً
واجتماعاً في مجلد ضخم ، قال في أوله :
” إنَّ نسبة هذه المسائل إلى الأئمة الأربعة
المجتهدين حرام ، وإنه يجب على الفقهاء المقلدين لهم معرفتها ، لئلا يعزوها إليهم
فيكذبوا عليهم ” .
تركُ
الأتبَاعِ بعضَ أقوالِ أئمتِهِمُ اتِّباعاً للسُّنَّةِ
ولذلك كله كان أتْبَاع الأئمة { ثُلَّةٌ مِنَ
الأَوَّلِينَ * وقليلٌ مِنَ الآخِرِينَ } لا يأخذون بأقوال أئمتهم كلها ، بل قد
تركوا كثيراً منها لمَّا ظهر لهم مخالفتُها للسنة ، حتى إنَّ الإمامين : محمد بن
الحسن وأبا يوسف – رحمهما الله – قد خالفا شيخهما أبا حنيفة ” في نحو ثلث
المذهب ! ” ، وكُتب الفروع كفيلة ببيان ذلك ، ونحو هذا يُقال في الإمام
المُزَنِي وغيره مِن أتْبَاع الشافعي وغيره ، ولو ذهبنا نضرب على ذلك الأمثلة لطال
بنا الكلام ، ولخرجنا به عمَّا قَصَدنا إليه في هذا البحث مِن الإيجاز ، فلنقتصر
على مثالين اثنين :
1 – قال الإمام محمد في ” موطئه ” ( ص
158 ) : ” قال محمد : أما أبو حنيفة – رحمه الله – ؛ فكان لا يَرى في
الاستسقاء صلاة ، وأما في قولنا ؛ فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ، ثم يدعو
ويُحوِّل رداءه ” إلخ .
2 – وهذا عصام بن يوسف البلخي من أصحاب الإمام محمد
ومن الملازمين للإمام أبي يوسف ” كان يفتي بخلاف قول الإمام أبي حنيفة كثيراً
، لأنه لم يعلم الدليل ، وكان يظهر له دليل غيره فيفتي به ” ، ولذلك ”
كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه ” كما هو في السنة المتواترة عنه صلى
الله عليه وسلم ، فلم يمنعه مِن العمل بها أنَّ أئمته قالوا بخلافها ، وذلك ما يجب
أنْ يكون عليه كل مسلم بشهادة الأئمة الأربعة وغيرهم كما تقدم ” انتهى كلام
الألباني – رحمه الله – . ( 1 ) .
فلا يجوز التقليد إلا للعامِّي الذي لا يعرفُ الدليل ، أما مَن تأهل وعرف الحق بدليله فلا يجوز له أنْ يُقلِّد ..
( 1 ) – صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم :
للإمام الألباني ( ص 45 – 57 ) .
اترك تعليقاً