قال ابن الجوزي : كان سعيد بن جبير فيمن خرج على الحجاج من القُرَّاء ، وشهد دير الجماجم ، فلما انهزم أصحاب الأشعث هرب فلحق بمكة فأخذه بعد مدة طويلة خالد بن عبد الله القسري ، وكان والي الوليد بن عبد الملك على مكة ، فبعث به إلى الحجاج .
عن أبي حصين قال : أتيت سعيد بن جبير بمكة فقلت : إن هذا الرجل قادم – يعني خالد بن عبد الله – ولا آمنه عليك ، فأطعني واخرج . فقال : والله لقد فررت حتى استحييت من الله . قلت : والله إني لأراك كما سمتك امك سعيداً . قال : فقدم مكة فأرسل إليه فأخذه فأخبرني يزيد بن عبد الله قال : أتينا سعيد بن جبير حين جيء به فإذا هو طيب النفس ، وبنيه في حجره ، فنظرت إلى القيد فبكت فشيعناه إلى باب الجسر ، فقال له الحرس : أعطنا كفلاء فإنا نخاف أن تغرق نفسك . قال يزيد : فكنت فيمن كفل به . عن داود بن أبي هند قال : لما أخذ الحجاج سعيد بن جبير قال : ما أراني إلا مقتولاً ، وسأخبركم أني كنت أنا وصاحبان لي دعونا حين وجدنا حلاوة الدعاء ، ثم سألنا الشهادة فكلا صاحبي رُزقها وأنا انتظرها . فكأنه رأى أن الإجابة عند حلاوة الدعاء . عن عمر بن سعيد قال : دعا سعيد بن جبير ابنه حين دُعي ليقتل فجعل ابنه يبكي ، فقال : ما يبكيك ؟ ما بقاء أبيك بعد سبعٍ وخمسين سنة . عن الحسن قال : لما أتى الحجاج بسعيد بن جبير قال : أنت الشقي بن كُسير ؟ قال : بل أنا سعيد بن جبير . قال : بل أنت الشقي بن كسير . قال : كانت أمي أعرف باسمي منك . قال : ما تقول في محمد ؟ قال : تعني النبي صلى الله عليه وسلم . قال : نعم . قال : سيد ولد آدم ، المصطفى ، خير من بقي وخير من مضى . قال : فما تقول في أبي بكر الصديق ؟ قال : الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مضى حميداً وعاش سعيداً ، ومضى على منهاج نبيه صلى الله عليه وسلم لم يغير ولم يبدل . قال : فما تقول في عمر ؟ قال : عمر الفاروق خيرة الله وخيرة رسول الله ، مضى حميداً على منهاج صاحبيه لم يغير ولم يبدل . قال : فما تقول في عثمان ؟ قال : المقتول ظلماً ، المجهز جيش العسرة ، الحافر بئر رومة ، المشتري بيته في الجنة ، صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه ، زوجه النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من السماء . قال : فما تقول في علي ؟ قال : ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول من أسلم ، وزوج فاطمة وأبو الحسن والحسين . قال : فما تقول في ؟ قال : أنت أعلم بنفسك . قال : بُثّ بعلمك . قال : إذاً نسوءك ولا نسرك . قال : بث بعلمك . قال : أعفني . قال : لا عفا الله عني إن أعفيتك . قال : إني لأعلم أنك مخالف لكتاب الله ، ترى من نفسك أموراً تريد بها الهيبة وهي التي تقحمك الهلاك ، وسترد غداً فتعلم ، ظهر منك جور في حد الله ، وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله . قال : أما والله لأقتلنك قتله لم أقتلها أحداً قبلك ولا أقتلها أحداً بعدك . قال : إذاً تفسد عليّ دنياي وأُفسد عليك آخرتك . قال : يا غلام السيف والنطع . فلما ولى ضحك . قال : قد بلغني أنك لم تضحك ؟ قال : قد كان ذلك ، قال : فما أضحكك عند القتل ؟ قال : من جرأتك على الله عز وجل ومن حلم الله عنك . قال : يا غلام اقتله . فاستقبل سعيد بن جبير القبلة فقال : { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً } مسلماً { وما أنا من المشركين } . فصرف وجهه عن القبلة فقال : { فأينما تولوا فثم وجه الله } . قال : اضرب به الأرض . قال : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى } . قال : اذبح عدو الله فما أنزعه لآيات القرآن منذ اليوم .
قال ابن ذكوان : إن الحجاج بن يوسف بعث إلى سعيد بن جبير فأصابه الرسول بمكة فلما سار به ثلاثة أيام رآه يصوم نهاره ويقوم ليله ، فقال الرسول : والله إني لأعلم أني ذاهب بك إلى من يقتلك فاذهب إلى أي طريق شئت . فقال له سعيد : إنه سيبلغ الحجاج أنك أخذتني ، فإن خلَّيت عني خفت أن يقتلك ، ولكن اذهب بي إليه . فلما أتاه به قتله .. فبلغ ذلك الحسن البصري فقال : اللهم يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج ، فما بقي إلا ثلاثاً حتى وقع في جوفه الدود فمات .
عن يحيى بن سعيد ، عن كاتب الحجاج يُقال له يعلى ، قال : كنت أكتب للحجاج وأنا يومئذٍ غلام حديث السنّ ، فدخلت عليه يوماً بعدما قتل سعيد بن جبير – المُحدِّث الفقيه – وهو في قبة لها أربعة أبواب ، فدخلت مما يلي ظهره فسمعته يقول : ما لي ولسعيد بن جبير .. ما لي ولسعيد بن جبير ، كلما أردت النوم أخذ برجلي .
قال تعالى : { ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون } . انتبه أن تظلم أحداً ! انتبه أكثر أن يكون من ظلمته ضعيفاً ، أو من أهل الخير والصلاح ، أو من العلماء ..! فالذنب أعظم والعقوبة أشد ..
اترك تعليقاً