” احفظ الله يحفظك .. ” .

الأثنين
أبريل 2019

عن أبي العباس عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال : كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : ” يا غلام إني أعلمك كلمات ، احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك ، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف ” . رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح .

وفي رواية غير الترمذي : ” احفظ الله تجده أمامك ، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشِّدة ، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن ليخطئك ، واعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب ، وأن مع العسر يسراً ” .

ما أجلَّهُ من حديث ! حتى قال بعض العلماء تدبَّرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش ، فواأسفاً من الجهل بهذا الحديث وقلة التفهم لمعناه .

قال صلى الله عليه وسلم : ” احفظ الله يحفظك ” . وحفظ الله يعني فعل أوامره وترك نواهيه وذلك بامتثالها ، فمن فعل ذلك حفظه الله .. وكلُّنا محتاجون إلى حفظ الله ! من منَّا لا يريد ذلك ؟

وفيه أنَّ الجزاء من جنس العمل ، فإذا حفظت الله فإن الله يحفظك مِمَّا تكره في دينك ودنياك ، فهذه ثمرة حفظ الله .. ويكون حفظ الله للعبد بحفظه في بدنه وولده وأهله وماله وجميع شأنه . قال تعالى : { وكان أبوهما صالحاً } : قال ابن عباس : حُفِظا بصلاح أبيهما . قال الحافظ ابن كثير : ( فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته ، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة ) . وكان سعيد بن المسيب يقول لابنه : لأزيدنَّ في صلاتي من أجلك رجاء أن أحفظ فيك ، ثم تلا الآية السابقة .

فإذا كان الولد يحفظ بصلاح أبيه ، فكيف بصلاح الرجل نفسه !! وقال بعضهم : إن الله ليحفظ بصلاح الرجل الدُّويرة التي هو فيها !! فالصالح بركته تتعدَّى إلى غيره ولا تقتصر عليه ..!!

قال صلى الله عليه وسلم في تكملته : ” احفظ الله تجده تجاهك ” ؛ أيّ : أمامك .. معك في كل أحوالك ، بنصره وتأييده وعنايته وتوفيقه .

قال : ” إذا سألت فاسأل الله ” ؛ أيّ : إذا دعيت فادع الله الكريم المنَّان سبحانه الذي عنده خزائن السموات والأرض ، لأنه هو النافع وهو الضار ، وهو المعطي وهو المانع ،  أما غيره فلا يملك شيئاً ، ولا تسأل الناس ، يقول الشيخ صالح الفوزان : ” وسؤال غير الله على نوعين :

الأول : سؤال فيما لا يقدر عليه إلا الله ، فهذا شرك أكبر ، كالذين يدعون الأموات ويستنجدون بالموتى ، ويستغيثون بهم ، ويطلبون منهم الحوائج ، فيأتي أحدهم عند القبر ، ويقول : يا فلان أغثني ، ويا فلان كذا وكذا ، يا ولي الله أعطني كذا ، وهذا شرك أكبر .

الثاني : سؤال الناس فيما يقدرون عليه ، وهذا جائز ، فيجوز أن تسأل إذا احتجت ، لكن الأولى بالعبد أن يتعفف عن سؤال الناس ، لأن في السؤال مذلَّة ، ونقصاً في التوحيد ” .

وقد بايع النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً منهم أبو بكر وأبو ذر وثوبان ، وكان أحدهم يسقط السوط أو خطام ناقته ، فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه !

فسأل الله – جلا وعلا – الغني الكريم ، فهو سبحانه ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ، فيقول : ” من يسألني فأعطيه ” ، وقال تعالى : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون } .

قال صلى الله عليه وسلم : ” وإذا استعنت فاستعن بالله ” ، الاستعانة طلب العون ، فإن العبد مهما أوتي من جاه وقوة وسلطان ، فهو لا يزال فقيراً عاجزاً عن الاستقلال بجلب مصالحه ودفع مضاره ، لذا يجب على العبد أن يستعين بالله وحده على مصالح دينه ودنياه ، يستعين بالله على طاعته وترك معصيته .. قال تعالى : { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وقال صلى الله عليه وسلم : ” احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز ” .

قال صلى الله عليه وسلم : ” واعلم أن الأمة لو اجتمعت ” لو اجتمع الخلق كلهم ” على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ” ؛ أي : قدَّره وكتبه لك في اللوح المحفوظ ؛ ” ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ” ؛ فهذا فيه الإيمان بالقضاء والقدر ، وأن الناس لا يقدرون على أن ينفعوك أو يضروك إلا بما كتبه الله لك على أيديهم من نفعٍ أو ضُرٍّ ، فهم سبب فقط ، وأما النافع الضار فهو الله – جل وعلا – إذا أمرهم الله نفعوك ، وإذا لم يأمرهم لم ينفعوك ، وإذا أمرهم ضروك ، فعليك بالإيمان بالقضاء والقدر .

ثم قال صلى الله عليه وسلم : ” رفعت الأقلام وجفت الصحف ” ؛ معناه أن قضاء الله قُدِّر وانتهى ولن يُغيَّر ، فإن القضاء الذي قدَّره الله لا يُغيَّر .

وفي الرواية الثانية قال صلى الله عليه وسلم : ” تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرِفك في الشِّدة ” ؛ يعني في حال الأمن والصحة والغنى والقوة ، وتكون معرفته بفعل طاعته وترك معصيته وزيادة التقرب إليه بالتنفُّل ، فمن عرف الله في هذا المقام عرفه عند الشدة ؛ يعني : إذا وقعت في شدة وأنت مطيع لله في حال الرخاء ، فإن الله ينقذك بأعمالك الصالحة ، مثل حديث أصحاب الصخرة ، الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار ، ولم يستطيعوا الخروج ، لمَّا كانت لهم أعمال صالحة سابقة فرَّج الله عنهم ، فهذا توسل إلى الله ببره بوالديه ، وهذا توسل إلى الله – جل وعلا – بتركه الزنا خوفاً من الله ، وهذا توسل إلى الله بأمانته وحفظه لأُجرة الأجير الذي ترك أجرته عنده وذهب ، حفظها له ونمَّاها ، فلما جاءه أعطاه إياه ، ففرَّج الله عنهم .

وقال الله – جل وعلا – في يونس – عليه السلام – صاحب الحوت : { فلو لا أنه كان من المسبحين } يعني : كان من المصلِّين في حالة الرخاء { للبث في بطنه إلى يوم يبعثون }، أنجاه الله بسبب أعماله الصالحة التي أسبقها . فالمسلم يعرف الله في الشدة والرخاء ، لا في حال الرخاء فقط !

قال صلى الله عليه وسلم : ” واعلم أن النصر مع الصبر ” ؛ الإنسان يبتلى في هذه الحياة ، فتعرض له آلام وكاره ، لكن عليه بالصبر ، لأن الشدائد تزول ولا تدوم ، فيقابل الشدائد بالصبر عليها حتى يزيلها الله عنه ، ولا يجزع ولا يسخط .

قال صلى الله عليه وسلم : ” وأن مع الفرج مع الكرب ” ؛ مهما اشتدت بالإنسان الخطوب ، وتوالت عليه المصائب والفتن والمحن ، ومهما ضاقت بالعبد الدنيا ، فإن فرج الله قريب ، والله – جل وعلا – يقول : { حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب } ، فإذا اشتد الأمر فاعلم أن فرج الله قريب ، ولا تيأس ولا تقنط من رحمة الله .

قال صلى الله عليه وسلم : ” وإن مع العسر يسرا ” ؛ إذا مرَّ بك عسرٌ وشدة ، فتذكر أنها لا تدوم بالإنسان ، طالما أنه ملتزمٌ بأمره ونهيه ، ملتجئ إليه ، قال سبحانه : { سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا } ، وقال تعالى : { إن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا } ، قال ابن عباس : لن يغلب عسرٌ يسرين ! فثق بالله ولا تستعجل ..

يقول الشيخ صالح الفوزان – حفظه الله – : ( فدل ذلك على أن الإنسان ينبغي له ألا يضيق به الأمر أبداً ، ولا يقنط من رحمة الله ، وأن يتوقع الخير من الله دائماً وأبداً ، وليس هناك أحدٌ في هذه الدنيا سالمٌ بل لابد أن يحصل عليه شيءٌ من البلاء ، فإن ” أشد الناس بلاءً الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل ” ، فعليه أن يقابل هذه الأمور بالصبر ، فإن النصر مع الصبر ، والفرج مع الكرب ، والعسر يصبر عليه بانتظار اليسر من الله سبحانه وتعالى ، فهو سبحانه لا يترك عبده أبداً ، ولكنه يبتليه ليظهر صبره وتحمله وإيمانه بالله عز وجل ، فهذا حديث عظيم ووصايا عظيمة وصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة بواسطة هذا الغلام المبارك ) .

ثم إن هذه الشدائد تصقل شخصية المسلم وتنقِّيه من الشوائب ، وتعلق قلبه بربه ، وكم من الناس من صارت له هذه الشدائد خيرُ معين ، حيث عرَّفته بربه ، وجعلته يرجع ويُنيب ! وأقلّ أحواله جعلته يُحسِّن علاقته بربه !! ( 1 ) .

 

( 1 ) – انظر : المنحة الربانية في شرح الأربعين النووية ؛ صالح الفوزان ( 174 – 180 ) ؛ وقواعد وفوائد ؛ ناظم سلطان ( 170 – 178 )

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.