سؤال الله تجديد الإيمان

الثلاثاء
أغسطس 2018

عن عبد الله بن عمرو – رضي الله عنهما – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب ، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم ” . رواه الطبراني في المعجم الكبير وصححه الألباني .

ما معنى ( يخلق ) يعني يبلى . يخلق بالمعاصي ، فيصبح في ظلمة ، يصبح في وحشة ، فما علاجه ؟ علاجه التوبة والاكثار من الأعمال الصالحة حتى يرجع مشعاً نيراً جديداً ، وإلّا لن يستمتع ويتلذذ بالطاعات ، ولن يجد حلاوة الإيمان ، فينبغي تعاهد الإيمان في القلب ، ومن المعلوم أن الإيمان يزيد وينقص ، ويرتفع وينخفض ، ويقوى ويضعف ، فيحتاج إلى تجديد من حين إلى آخر ، وذلك بدعاء الله عز وجل ، بأن ترفع يديك وتقول : اللهم جدد الإيمان في قلبي ، وبفعل الأسباب التي تكون سبباً في تجديده .. وتجديد الإيمان هو ( أعظم أنواع التجديد ، وأحسنها أثراً ، وأشرفها مآلاً ، وما أحسن أن تعظم صلة المرء بمولاه ! وأن يعود إلى ساحات الخشوع ، ومعاني الخضوع ، وأن يذرف الدموع ، وأن تعظم منه الأشواق ، وينتفي عنه الشقاق والنفاق ، ويستبدّ به الحنين ، ويكثر منه الأنين ! فهذه والله الحياة الجميلة ، لا حياة القصر والخميلة ، وهي والله شرف العابدين ، ومبتغى الأولين والآخرين .

والحياة اليوم قد تعقّدت واشتدت وتعسّرت ، وليس التجديد الإيماني بأمر سهل أبداً ، ولكن أذكر بعض الأعمال التي تقع في دائرة الممكن لأكثر الناس ، إن لم يكونوا كلهم ، والله أعلم .

أ – قيام الليل :

وقد كثر فيه الحديث ، ونشرت من أجله كتب ورسائل ، ولكن المشكلة أن ما يُكتب هو أمر بعيد المنال عن أكثر الناس ، لكن لو فَهَمَ مريد قيام الليل أن أي صلاة تطوع بعد الغروب هي صلاة ليل ، لأكثر من التطوع بين العشاءين وبعد العشاء قبل النوم .

نعم إن جوف الليل الآخر لا مثيل له ، لكن من صلى كما ذكرت حصل له فضيلة قيام الليل ، وإن لم يصب الأفضل والأحسن من الوقت ، ولكن هذا أفضل من تضييع القيام بالكلية ، كما يحصل عند الكثرة الكاثرة من الناس اليوم ، إذ أنهم إما أن يقوموا في ثلث الليل الآخر ، أو يظلوا متحسرين مكتئبين على فوات قيام الليل ! فالحل العملي المناسب – في ظني – هو أن يصلي المرء قبل نومه ما استطاع ، وهذا نوع من التجديد حميدٌ وعمليٌّ ، فإن تيسّر له قيام بعد ذلك فبها ونعمت وإلّا فهو قد صلى من الليل ما كتب له ، ويكمِّل ما هاهنا الفقرة التالية :

ب – الاستيقاظ قبل الفجر بنصف ساعة :

وهذا أمر ميسور لأكثر الناس ، إذ عِوضَ أن يستيقظ وقت الأذان أو بعده فبمقدوره الاستيقاظ قبل الفجر بنصف ساعة ؛ خمس دقائق منها لطهارته ، وخمس لدعائه ، وخمس لاستغفاره ، وربع ساعه لوتره ، وهو بهذا يصيب الوقت الفاضل للدعاء والاستغفار والصلاة ؛ وهو السّحر ، قال تعالى : { وبالأسحار هم يستغفرون } ، وقال جل من قائل : { والمستغفرين بالأسحار } ، وقال صلى الله عليه وسلم : ” ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ، يقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ ومن يسألني فأعطيه ؟ ومن يستغفرني فأغفر له ؟ ” . وعن عائشة – رضي الله عنها – أنها سئلت عن صلاة رسول الله بالليل ؟ قالت : كان ينام أوله ، ويقوم آخره يصلي . وقيل لعائشة – رضي الله عنها – :  متى كان يقوم ؟ قالت : كان يقوم إذا سمع الصارخ ؛ أي : الديك .

وقد يقول القائل : ما له حدد الاستيقاظ قبل الفجر بنصف ساعة ، لِمَ لم يجعلها ساعة – مثلاً – أو أكثر ؟

وأقول : ليس حديثي الآن في المثاليات الرائعة التي لم ولن يدركها أكثر الناس ! إنما أتحدث عن حلول عملية وتجديد إيماني يسهل على كل الناس أو أكثرهم ، ويصيبون به شيئاً من الفضائل الواردة للمستيقظين في الأسحار ؛ إذ جرت عادة أكثر الناس أن يطلبوا القيام قبل الفجر بنصف ساعة أو نحوها ، فهذا خير كثير إن اعتاده المرء ترقّى إلى طلب الفاضل من الأوقات ، والله أعلم .

ج – صيام التطوع :

التنويع في صيام التطوع نوع من التجديد الإيماني المطلوب ، وكثير من الناس لم يعرف صيام الأيام البيض ، ولم يداوم على صيام الأثنين والخميس ، فمن عاد ليلتزم صيام هذه الأيام حصل نوع من التجديد . وهناك جانب مهم في صيام التطوع يغفل عنه كثير من الناس ، بل أكثر من عاشرت يغفل عنه ؛ ألا وهو صيام غير الأثنين الخميس والأيام البيض ، فبعض الناس لا يتيسر له صيام الخميس لكونه مشغولاً فيه بحق الأهل أو بأموره الخاصة ، فمثل هذا لو صام أي يوم من أيام الأسبوع – ما لم يكن يوم الجمعة منفرداً – يحصل له نوع من التعويض والتجديد . وبعض الناس يعجب ممن يكون صائماً في غير الأيام الواردة فيها الأحاديث ، وكأنه غفل عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم : ” من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ؛ أي سنة ، وقيل : هو مخصوص بمن صام وهو يقاتل في سبيل الله .

وكأنه غفل عن شأن رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم في صيام أيام غير تلك الأيام الفاضلة ، فهذه أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – تحدث عن شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول : ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم ، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر إلا رمضان ، وما رأيته أكثر صياماً منه في شعبان ” .

د – المتابعة بين الحج والعمرة خاصة لمن كان قريباً من مكة :

المتابعة بين الحج والعمرة أمر عظيم ، يحصل بها لصاحبه تجديد إيماني كبير ورائع ، يقول النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم : ” العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ” .

ويقول صلى الله عليه وسلم : ” تابعوا بين الحج والعمرة ؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ! وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة ” .

هه – مجالس الذكر :

جرِّب يوماً واجلس في مجلس ذكر ، تجد إيمانك يزيد ويتجدد ، وهمتك ترتفع ، وقلبك يحيا ! مجالس الذكر أو سماع شريط وعظي لهما أثر عظيم في تجديد الإيمان ، ويعرف ذلك من جرَّب ، فإنه يرى الفرق في حياته قبلها وبعدها ! في عمله وهمته ونشاطه ..

يقول أحد الدعاة : إذا جلست في مجلس ذكر ، ما ذا يحصل ؟ قال : ينشرح الصدر .. يحيا القلب .. يصحى الفكر .

وصدق والله في كلامه هذا كله !

ك – التوبة :

وذلك أن التوبة في حق – كل مسلم ومسلمة واجبة – وهي في حق من جاوز الأربعين آكد وأوجب ، وصاحب المعاصي إن لم ينزجر عن معصيته ، ويرجع عن غيه بعد الأربعين فقد أساء العمل ، وأطال الأمل ، وغرّه غيب الأجل ! هذا وقد فُسِّر قوله تعالى : { أو لم نعمّركم ما يتذكّر فيه من تذكّر وجاءكم النّذير } ؛ بأن التّعمير : هو أربعون سنة ، وهو مروي عن جملة من السلف . وقال الشاعر :

إذا المرء وافى الأربعين ولم يكن .. له دون ما يهوى حياةٌ ولا سترُ .

فدعه ولا تنفس عليه الذي مضى .. وإن جَرَّ أسباب الحياةِ له العمرُ .

وهذه التوبة التي تقع بعد الأربعين ينبغي أن تكون توبة نصوحاً ؛ أي لا عودة للذنوب بعدها ، وذاك حتى تستقيم حياته ، ويغزر أثره ، ويعظم إنتاجه ، أما إن ظل يتوب ثم يسقط ، ثم يتوب ثم يسقط ، فمثل هذا قد لا يستطيع أن يقدِّم شيئاً مهماً لأمته ، ولا أن يرتقي بنفسه إلى المحل الذي يليق به ، وإن كانت التوبة بشروط مقبولة على كل حال : ” طبيعي أن تكون هذه التوبة نُقلة كاملة من حياة إلى حياة ، وفاصلاً قائماً بين عهدين متميزين ، كما يفصل الصبح بين الظلام والضياء ، فليس هذه العودة زَوْرةً خاطفة يرتد المرء بعدها إلى ما ألف من فوضى وإسفاف ، وليست محاولة فاشلة ينقصها صدق العزم وقوة التحمل وطول الجَلَد ، كلا .. كلا ، إن هذه العودة الظافرة التي يفرح الله بها هي انتصار الإنسان على أسباب الضعف والخمول ، وسحقة لجراثيم الوضاعة والمعصية ، وانطلاقه من قيود الهوى والجحود ، ثم استقراره في مرحلة أخرى من الإيمان والإحسان ، والنضج والاهتداء ، هذه هي العودة التي يقول الله في صاحبها : { وإني لغفار لمن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى } ، إنها حياة تجددت بعد البلى ، ونقلةٌ حاسمة غيرت معالم النفس كما تتغير الأرض الموات بعد مقادير هائلة من المياه المخصِّبات .

إن تجديد الحياة لا يعني إدخال بعض الأعمال الصالحة أو النيات الحسنة وسط جملة ضخمة من العادات الذميمة والأخلاق السيئة ! فهذا الخلط لا ينشد به المرء مستقبلاً حميداً ولا مسلكاً مجيداً ، بل إنه لا يدل على كمال أو قبول ؛ فإن القلوب المتحجرة قد ترشح بالخير ، والأصابع الكَزَّة – أي البخيلة – قد تتحرك بالعطاء ، والله عز وجل يصف بعض المطرودين من ساحته فيقول : { أفرأيت الذي تولى * وأعطى قليلاً وأكدى } .

ويقول في المكذبين بكتابه : { وما هو بقول شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون * ولا بقول كاهنٍ قليلاً ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين } .

فالأشرار قد تمرُّ بضمائرهم فترات صحوٍ قليل ، ثم تعود بعد ذلك إلى سُباتها ، ولا يسمى ذلك اهتداء ، إن الاهتداء هو السطر الأخير للتوبة النصوح ) . (1) .

 

(1) – انظر : جدد حياتك ؛ محمد موسى الشريف ( ص : 37 – 43 ) باختصار وتصرف وإضافة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.