اليوم نتكلم عن إمام من أئمة الحديث ، وعالم من علماء الجرح والتعديل .. عالم له مكانة وفضل في هذا الشأن ! نتكلم عن الحافظ ابن حجر – يرحمه الله – .
هو الإمام الحافظ شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن محمود الكناني العسقلاني الشافعي المصري .
نشأته وطلبه العلم :
مات والده وعمره أربع سنوات ، ووالدته توفيت قبل ذلك ، فنشأ يتيماً ، إلَّا أنه لم يُحفظ له زلَّة ولا عرف عنه صبوة ! وقد ظهرت فيه النجابة منذ الصغر ، فحفظ القرآن وعمره تسع سنوات ، ورحل في طلب العلم وعمره قرابة أحد عشر عاماً !! كما حفظ جملةً من أمهات الكتب العلمية – المتون – منها : عمدة الأحكام ، والألفية في علوم الحديث لشيخه العراقي ، والحاوي الصغير ، ومختصر ابن الحاجب في الأصول ، وملحة الإعراب ..
وكان قد حُبِّب إليه أولاً النظر في التواريخ وهو بعد في المكتب ، فعلق بذهنه شيء كثير من أحوال الرواة ، ثم نظر في فنون الأدب من سنة 792 هجرية وتولَّع بالنظم ، وقال الشعر ، ونظم مقاطيع ومدائح نبوية .
ثم حُبِّب إليه الحديث وعمره عشرون عاماً ! لكنه لم يلزم طلبه والتَّوفر عليه إلَّا بعد ذلك بثلاث سنوات ، حيث أقبل بكليّته على الحديث وعلومه ، وعكف على حافظ ذلك العصر زين الدين العراقي ، فلازمه عشرة أعوام فتخرج عليه !
وقد يسَّر الله له القراءة ، فقرأ صحيح مسلم في يومين وشيء !! كما نقله السخاوي قال : ” وما وقع لشيخنا في قراءة صحيح مسلم أجلُّ مِمَّا وقع لشيخه المجد اللغوي ، فإنه قرأه بدمشق بين بابي الفرج والنصر على ناصر الدين أبي عبد الله بن جهبل في ثلاثة أيام .
وقرأ سنن ابن ماجه في أربعة مجالس ! وكتاب النسائي الكبير على الشرف بن الكويك في عشرة مجالس ! وصحيح البخاري في عشرة مجالس كل مجلس أربع ساعات !
وأسرع شيءٍ وقع له أنه قرأ في رحلته الشامية معجم الطبراني الصغير في مجلس واحد بين صلاتي الظهر والعصر ، وهذا الكتاب في مجلد يشتمل على نحو ألف وخمسمائة حديث ..!
وكان لا يجلس خالياً ، بل كان يشتغل بالمطالعة أو التصنيف أو العبادة ..
وقد عُرِض عليه القضاء فامتنع ، ولكنه أُجبر عليه ، ثم تكرر عزله عن القضاء – وعزل نفسه أحياناً – بسبب صلابته في الحق وترك المداهنة في دين الله .. إلى أن صمَّم الإقلاع عنه في سنة 852 هجرية بعد زيادة مدة قضائه على 21 سنة .
مكانته العلمية :
احتل الحافظ ابن حجر مكانة عظيمة في عصره ، فقرأ عليه غالب علماء ذلك العهد ، ورحل الناس إليه من سائر الأقطار .
شهد له أعيان العلماء آنذاك بالحفظ ، والتفرد في معرفة الرجال واستحضارهم ، ومعرفة العالي والنازل وعلل الأحاديث ، وصار هو المُعوَّلِ عليه في هذا الشأن ، واعتنى بتحصيل تصانيفه كثير من شيوخه وأقرانه ومن دونهم ، وانتشرت في حياته وبعد مماته .
وقد أثنى عليه جمعٌ من العلماء ، فقال ابن العماد في ترجمته : ( شيخ الإسلام ، علم الأعلام ، أمير المؤمنين في الحديث ، حافظ عصره ) .
ووصفه الشوكاني بــ ( الحافظ الكبير الشهير ، الإمام المنفرد بمعرفة الحديث وعلله في الأزمنة المتأخرة .. حتى صار إطلاق ” الحافظ ” عليه كلمة إجماع ) .
شيوخه :
أخذ الحافظ عن كبار شيوخ عصره ، ومن أبرزهم : الحافظ العراقي ، والحافظ ابن الملقِّن ، والحافظ سراج الدين البُلقيني .. وغيرهم .
تلاميذه :
ذكر السخاوي 626 اسماً من تلاميذه ممن أخذ عنه دراية ورواية ، ومن أشهرهم : السخاوي نفسه ، وجلال الدين السيوطي ، وزكريا الأنصاري .. وغيرهم .
مؤلفاته :
بلغت مؤلفاته فيما ذكره الحافظ السخاوي ممن ألف في ترجمة الحافظ ابن حجر قرابة 282 مؤلَّفاً ! وبعض هذه المؤلَّفات ضخمة الحجم كفتح الباري ، وهو من أجلِّ كتب ابن حجر ، وقد أخذ من الحافظ أكثر من ثلاثٍ وعشرين سنة وهو يُصنِّف فيه ويُمليه على تلاميذه !
ومنها ” بلوغ المرام من أدلة الأحكام ” ، لخَّصَ فيه الإلمام لابن دقيق العيد وزاد عليه كثيراً ، وهو من أفضل ما أُلِّفَ في كتب الأحكام ، فاهتم به العلماء شرحاً وتخريجاً وحفظاً ، وانتشر في الآفاق وكتب الله له القبول في الأرض .
ومنها ” تلخيص الحبير ” ، وهو كتاب لخص فيه تخريج الأحاديث التي تضمَّنها الوجيز للرافعي ، ولأهميته أصبح مرجع لمن يريد أن يعرف صحة الحديث من ضعفه من أحاديث الأحكام .
ومنها ” الدِّراية في تخريج أحاديث الهداية ” ، ويعتبر من كتب التخريج أيضاً البديعة ، وقد خرَّج الأحاديث الواردة في كتاب الهداية ، وهو مرجع في الفقه الحنفي .
ومنها ” القول المُسدَّد في الذَّب عن المُسنَد ” ، ويسمى القصد الأحمد .
ومنها ” نخبة الفِكَر في مصطلح أهل الأثر ” ، وهذا الكتاب مع صغر حجمه إلا أنه يعتبر عُصارة فكر الحافظ ابن حجر ، وقد اشتمل على مجمل علم مصطلح الحديث ، وقد رتبه ترتيباً تسلسليّاً لم يُسبق إليه ، فأصبح عمدة المختصين ، ومحل اهتمام الشارحين !
ومنها ” نزهة النظر ” ، وهو شرح لنخبة الفكر ، ويُعدُّ أفضل شرح عليها على الإطلاق .
ومنها ” النكت على ابن الصلاح ” ، وهو من كتب المصطلح النافعة أيضاً .
ومنها ” تقريب تهذيب التهذيب ” ، ومنها ” تهذيب التهذيب ” ، وهو اختصار لكتاب تهذيب الكمال للمزي ، مع زيادات كثيرة عليه تقرب من ثلث المختصر .
ومنها ” الإصابة في تمييز الصحابة ” ، وهو كتاب تراجم ترجم فيه ابن حجر للصحابة ، فكان من أهم المصادر في معرفة الصحابة .
وغيرها وغيرها كثير ..
وفاته :
امتدت حياة الحافظ ابن حجر – رحمه الله – فعاش قرابة 79 عاماً ، وقد انقطع في بيته بعد أن عزل نفسه من منصب قاضي القضاة في 25 جمادى الآخرة من سنة 852 هجرية ، ولازم التصنيف والتأليف ومجالس الإملاء إلى أن مرض – رحمه الله – في ذي القعدة من السنة نفسها ، واستمر يطلع إلى الجامع الطولوني للصلوات والإقراء والإملاء على العادة ، ولم يتركه إلى أن اشتد به المرض جداً في يوم الثلاثاء 14 ذي الحجة ، بحيث صار يصلي الفرض جالساً ولم يستطع قيام الليل ، ثم صرع يوم الأربعاء وتكرر ذلك منه ، وكانت وفاته ليلة السبت 18 ذي الحجة بعد العشاء بنحو ساعة ، سنة 852 هجرية في القاهرة – رحمه الله تعالى – .
( 1 ) – انظر في ترجمته : مقدمة حاشية بلوغ المرام لابن باز ؛ ومقدمة البلوغ أيضاً تحقيق محمد صبحي حلاق ؛ ومقدمة نخبة الفكر تحقيق محمد الهبدان .
اترك تعليقاً