مُحدِّث العصر العلَّامة الألباني .

الجمعة
مارس 2019

” ما رأيت تحت أديم السماء عالِماً بالحديث في العصر مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني ” . ( الشيخ عبد العزيز بن باز ) .

وقال الشيخ ابن عثيمين في معرض دفاعه عن الشيخ الألباني : الألباني رجل من أهل السنة – رحمه الله – مدافع عنها ، إمام في الحديث ، لا نعلم أحداً يباريه في عصرنا … الرجل – رحمه الله – أعرفه من كتبه ، وأعرفه بمجالسته أحياناً ، سلفي العقيدة ، سليم المنهج .

الحمد لله على نعمة الإسلام …

فكلما تعمَّقت أكثر في تاريخ الإسلام وتاريخ عظماء أمة الإسلام ، أدركت حجم النعمة التي نحن فيها ، وأدركت عِظم هذا الدين الذي نحن عليه .. فما الذي دفع رجلاً أوروبيَّاً ليس فيه جذور يعربية – عدنانية كانت أو قحطانية – أنْ يُسخِّر كل حياته لكي يُصحِّح الأحاديث المرويِّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفصِل منها الغثّ من السمين ، وليحمل راية الجرح والتعديل في أصعب زمنٍ مرَّت به الأمة الإسلامية على الإطلاق ؟! إننا في صدد الحديث عن رجلٍ أعتبره كبار علماء هذه الأمة مُجدِّد الإسلام في القرن الأخير .. إننا نتحدث عن الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله تعالى – الذي سخَّر عمره في تصحيح وتحرير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقبل أن نتحدث عن الشيخ الألباني – رحمه الله – ، أرى أنه من الواجب أن نتكلم قليلاً عن ” ألبانيا ” ، البلد الذي ينتسب إليه هذا الإسلامي العظيم ، فمن منا يعلم أنَّ في قلب أوروبا المسيحية بلدٌ معظم سكانه مسلمون اسمه ألبانيا ؟ من منّا سمع باسم ” تيرانا ” تلك العاصمة الإسلامية لهذا البلد ؟ بل من منّا سمع باسم ألبانيا أصلاً في حياته كلها ؟!!..

ألبانيا دولة بشعبٍ مسلم في الغالب تقع في منطقة البلقان الأوروبية ، والتي كانت جزءً من ديار الإسلام لما يزيد عن 500 عام في ظل الخلافة الإسلامية العثمانية الراشدة ، وقد يُفاجأ البعض عند علمهم أنَّ الإسلام دخل إلى ألبانيا مُبكِّراً ، وبالتحديد مع القرن الأول الهجري في ظل دولة الأمويين الأبطال ، فلقد بعث بنو أمية الدعاة والتجار إلى البلقان لينشروا الإسلام هناك ، فأسلم الألبان عن بكرة أبيهم ، ليبدأ مسلسل مجازر الصرب الأرثوذكس على المسلمين منذ ذلك الوقت المُبكِّر ، وحتى الآن !

وفي عام 1333هجرية 1914 م وُلد لشيخٍ طيبٍ من شيوخ عاصمة ألبانيا القديمة ” أشقدورة ” هو الحاج ( نوح بن نجاتي بن آدم الأشقودري ) طفلٌ أسماه محمداً تيمناً برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصادف ذلك الزمن ظهور رئيسٍ مجرم في ألبانيا اسمه ( أحمد زوغلو ) ، هذا الرئيس كانت له اتجاهات غربية ، فمنع النساء من ارتداء الحجاب ، وأغلق المدارس الدينية ، وفرض الفكر الغربي على المسلمين هناك . فقرر الحاج نوح أنْ يترك الدار والأهل ليهاجر في سبيل الله إلى أرض الشام المباركة ، وصدق رسول الله إذ قال : ” من كانت هجرته لله ورسوله ، فهجرته لله ورسوله ” ، فقد كافأ الله الحاج نوح على تضحيته بأنْ جعل من ابنه محمد إمام عصره وزمانه ، ليكون بالفعل ناصر الدين في هذا الزمن ، فلقد علَّم الحاج نوح ابنه على يديه ، فوضع له برنامجاً صارماً في حفظ القرآن والحديث والنحو والتصريف ، وفي نفس الوقت علَّمه مهنة إصلاح الساعات ليكون واحداً من أشهر أرباب هذه المهنة في الشام كلها ، فالألباني الذي صحَّحَ أحاديث محمد بن عبد الله في مُصنَّفاتٍ ضخمه لم يكن ” أستاذاً جامعياً ” أو ” أكاديميّاً مرموقاً ” بل كان ” ساعاتيّاً ” !

فإذا ما قرأت حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووجدت من تحته عبارة : ” صحَّحه الألباني ” ، فاعلم أنَّ فضل ذلك يعود لله أولاً ثم لهذا البطل الأوروبي المسلم ( 1 ) .

أمَّا عن أسباب توجِّهه للحديث ، فيقول الشيخ الألباني عن نفسه : ” وقد وفَّقني الله بفضله وكرمه ، دون توجيه من أحد منهم إلى دراسة الحديث والسنة أصولاً وفقهاً ، بعد أن درست على والدي وغيره من المشايخ شيئاً من الفقه الحنفي ” ، وذكر علوماً أخرى درسها أيضاً ..

فتأمل كيف سخَّر الله هذا الإمام لعلم الحديث منذ صغره ! وإذا أراد الله شيئاً هيَّأ له أسبابه .

فهكذا كان توجِّهه للحديث .. لم يكن والد الشيخ الألباني مهتمَّاً بعلم الحديث حتى يُقال أنَّ الشيخ الألباني تخرَّج على يد والده ، أو أنَّ والده أثَّر عليه في ذلك .

نترك الشيخ الألباني أيضاً يقصُّ علينا قصةٌ أخرى في كيفية توجِّهه للحديث .. يقول : ” ذات يوم وجدت عنده – أيّ عند بائع الكتب – بعض الأعداد من مجلة ” المنار ” ، فأذكر جيداً أنني قرأت فيها فصلاً للشيخ محمد رشيد رضا يتكلم عن مزايا كتاب ” الإحياء ” للغزالي ، وينتقده من بعض النواحي كصوفياته مثلاً ، والأحاديث الضعيفة ، وبهذه المناسبة ذكر الشيخ أنَّ لأبي الفضل زين الدين العراقي كتاباً وضعه على الإحياء خرَّج فيه أحاديثه وخرَّج صحيحها من ضعيفها ، وهو ” المُغْنِي عن حمل الأسفار في تخريج ما في الإحياء من الأخبار ” ، فتلهَّفتْ نفسي لهذا الكتاب ، فذهبتُ إلى السوق أسأل عنه كالعاشق الولهان ، حتى وجدته عند أحدهم ، ولكني في ذلك الوقت فقيراً كأبي لا أستطيع أنْ أشتري هذا الكتاب ، فاتَّفقت مع مالكه أنْ أستأجره منه ، فأخذت الكتاب وأنا أكاد أطير فرحاً ، وذهبت إلى الدكان ، فكنت أغتنم فرصة غياب والدي لأخلو بكتابي ، وبعد ذلك أردت أنْ أنسخ كتاب ” المغني عن حمل الأسفار ” فاشتريت الورق ، وبدأت في الكتابة ، ثم خطرت لي خاطرة وهي : أنني أردت أنْ أستفيد من مراجع والدي في مسألة غريب الحديث ، واستفدت كثيراً من هذا العمل وهو الآن يوجد عندي كأثر من مخطوطاتي آنذاك ” .

هكذا يحكي لنا الشيخ الألباني كيف بدأ توجهه لطلب علم الحديث ، وعمره في السابعة عشرة ! ثم بعد ذلك كان وجود المكتبة الظاهرية بدمشق مساعداً كبيراً للشيخ في البحث ومواصلة مسيرته العلمية .

ولقد أصبح الإهتمام بالحديث شغل الشيخ الألباني الشاغل ، حتى كان يغلق دكانه ، ويذهب إلى المكتبة الظاهرية ، ويبقى فيها اثنتي عشرة ساعة ! لا يفتر عن المطالعة والتعليق والتحقيق . وبعد ذلك بدأ الشيخ يفتح بعض الدروس العلمية في الحديث وغيره ، لبعض الراغبين في طلب العلم في ذلك الوقت .

وقد تولَّى الشيخ الألباني – رحمه الله – تدريس مادة الحديث في المدينة المنورة في ” الجامعة الإسلامية ” . وقد نفع الله به الأمة وخلَّفَ لنا مؤلفات تجاوز المائة ما بين مطبوع ومخطوط ، ما بين تأليف وتحقيق .

توفي الشيخ الألباني – رحمه الله – عام 1420 هجرية ، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء ، وأسكنه فسيح جناته ( 2 ) .

الإمام الألباني

 

( 1 ) – مائة من عظماء أمة الإسلام غيَّروا مجرى التاريخ : جهاد التُرباني ( ص : 466 – 468 ) .

( 2 ) – انظر : جهود الشيخ الألباني في الحديث رواية ودراية : عبد الرحمن العيزري ( ص : 34 – 38 ) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.