عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن ، يقول : ” إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك ، وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علَّام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر – ويُسمي حاجته – خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال : عاجله وآجله – فاقدره لي ويسره لي ،ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري – أو قال : عاجله وآجله – فاصرفه عني ، واصرفني عنه ، واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به ” رواه البخاري .
فما ندم من استخار الخالق ، وشاور المخلوقين المؤمنين ، وتثبَّت في أمره ، فقد قال سبحانه : { وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] .
شرح الحديث :
قوله : ” في الأمور كلها ” أيّ : أمور الدنيا ؛ لأن أمور الآخرة لا يُحتاج فيها إلى الاستخارة ، لأن الرجل إذا أراد أن يصلي أو يصوم أو يتصدق ، لا حاجة له إلى الاستخارة ، ولكن يَحتاج إلى الاستخارة في أمور الدنيا ، مثل : السفر ، والنكاح ، وشراء المركب ، وبيعه ، وبناء الدار ، والانتقال إلى وطن آخر .. ونحو ذلك .
قوله : ” كما يعلمنا السورة من القرآن ” يدلّ على شدَّة اعتنائه صلى الله عليه وسلم بتعليم الاستخارة .
قوله : ” إذا همَّ بالأمر ” أيّ : إذا عزم على القيام بعملٍ ولم يفعله .
قوله : ” فليركع ركعتين من غير الفريضة ” أيّ : ليصلي ركعتين من غير الصلوات الخمس المكتوبة ، وتُسمَّى هذه الركعتان ركعتي الاستخارة ، والأفضل أن يصليها في غير وقت نهي ، فإن احتاج إليها في وقت النهي فلا بأس أن يصليها فيه لأنها من ذوات الأسباب ، وذوات الأسباب تفعل حتى في وقت النهي .
قوله : ” أستخيرك ” أيّ : أطلب الخير أن تختار لي أصلح الأمرين ، لأنك عالم به وأنا جاهل .
قوله : ” وأستقدرك ” أيّ : أطلب أن تُقْدِرَني على أصلح الأمرين ، إذ أطلب منك القدرة على ما نويته ، فإنك قادر على إقداري عليه ، أو أن تقدر لي الخير بسبب قدرتك عليه .
قوله : ” ويسمي حاجته ” أيّ : يسمي أمره الذي قصده ، مثلاً يقول : اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر خير لي .. أو هذا النكاح .. أو هذا البيع .. ونحو ذلك .
قوله : ” في ديني .. ” أيّ : إن كان فيه خير يرجع لديني ولمعاشي وعاقبة أمري ، وإنما ذكر عاقبة الأمر ؛ لأنه رُبَّ شيء يقصد فعله الإنسان يكون فيه خير في ذلك الحال ، ولكن لا يكون خيراً في آخر الأمر ، بل ينقلب عكسه .
قوله : ” معاشي ” أيّ : العيش والحياة .
قوله : ” فاقدُرْه ُ” أيّ : اقضِ لي به وهيئه .
قوله :” فاصرفه عني ” : أيّ : لا تقضِ لي به ولا ترزقني إيَّاه .
قوله : ” واصرفني عنه ” أيّ : لا تُيسِّر لي أن أفعله ، وأقلعه من خاطري .
قوله : ” حيث كان ” أيّ : الخير ؛ والمعنى : اقضِ لي بالخير حيث كان الخير .
قوله : ” ثم أرضني به ” أيّ : اجعلني راضياً بخيرك المقدور ، أو بشرِّك المصروف .
فإذا استخار العبد الله تعالى ، فينبغي له أن يشاور أهل الرأي السديد والفطنة والخبرة والصلاح والأمانة يطلب آرائهم في أمره (1) ، فإن الهجوم على الأمور من غير نظر في العواقب موقِع في المعاطب ، وكم من إنسان أقدَم على أمرٍ لم يستخير فيه ولم يشاور فندم !
وصفتها أن يبدأ أولاً بركعتي الاستخارة ثم بالدعاء بعد السلام ، ثم مشاورة أهلها وليست مع جميع المخلوقين .
فإن لم يتبين له شيء ، فإنه يكررها ثانية وثالثة حتى يتبيَّن له . قال ابن دقيق العيد : ولا تتوقف هذه الاستخارة على نوم – أيّ رؤيا – ، بل تتوجه إلى ما ينشرح له صدرك . وقَالَ النَّوَوِيُّ : إِذَا اسْتَخَارَ مَضَى بَعْدَهَا لِمَا شُرِحَ لَهُ صَدْرُهُ . انْتَهَى
تنبه ! ورد في الحديث شك من الراوي في بعض ألفاظه ، فلا بد فيه من ترجيح أحد ألفاظه كما قال ابن القيم – رحمه الله – ” فإن الراوي شك هل قال النبي صلى الله عليه وسلم :
” اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ” أو قال : ” وعاجل أمري وآجله ” بدل ” وعاقبة أمري ” ، قال ابن القيم : والصحيح اللفظ الأول ، وهو قوله : ” ديني ومعاشي وعاقبة أمري ” فيكون الجمع بين المعاش وعاجل الأمر تكراراً ، بخلاف ذكر المعاش والعاقبة ، فإنه لا تكرار فيه ، فإن المعاش هو عاجل الأمر والعاقبة آجله . (2) .
وهذا الذي قاله ابن القيم أغفله كثير من الشراح !
[1] (1) – شرح حصن المسلم ؛ سعيد بن وهف القحطاني : شرح مجدي بن عبد الوهاب أحمد ( 154-156 ) بتصرف وإضافة .
(2) – جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام ( 461 ) .
اترك تعليقاً