عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ– رضي الله عنه – ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَقَالَ: «فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ» وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا . رواه البخاري ومسلم .
في هذا الحديث دليل على استحباب استغلال هذه الساعة الشريفة التي يُستجاب فيها بالدعاء ، فلا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله عز وجل شيئاً من أمور الدنيا والآخرة إلَّأ أعطاه إيَّاه عاجلاً أو آجلاً .
وقد استشكل بعض الصحابة – رضي الله عنهم – كأبي هريرة ” وهو قائم يصلي ” بعد العصر وهذا الوقت ليس وقت صلاة ..! فسأل عبد الله بن سلام وقال له : كيف تكون آخر ساعة من يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” لا يصادفها عبد مسلم يصلي ” وتلك ساعة لا يُصلَّى فيها ؟ وكذا سأل عبد الله بن سلام أحد رواة الحديث كما في رواية عند أحمد .
وقد أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام بقوله : ” بلى ، إن المؤمن إذا صلى لا يحبسه إلا الصلاة فهو في صلاة ” .
فالمراد بقوله : ” يصلي ” يدعو ، لأن الصلاة تطلق على الدعاء لغة ، أو أن منتظر الصلاة في صلاة كما مرَّ في حديث عبد الله بن سلام ، ومما يدل على صحة هذا التأويل أن أبا هريرة سلَّم لابن سلام تأويله ولم يعترض عليه ، قاله ابن عبد البر .
وعلى هذا فالصلاة محمولة على مدلول شرعي وهو الانتظار .
وقد وقع الخلاف في تعيين هذه الساعة على أقوال ، أشهرها قولان :
القول الأول : أنها من جلوس الإمام إلى انقضاء الصلاة ، ودليل هذا القول حديث أبي بردة عن أبيه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: « هِيَ مَا بَيْنَ أَنْ يَجْلِسَ الْإِمَامُ إِلَى أَنْ تُقْضَى الصَّلَاةُ » رواه مسلم .
وهذا قول مرجوح ، لأنَّ حديثه تكلم فيه أهل العلم وأعلّوه بعلتين :
الأولى أنَّ في اسناده انقطاعاً ، ولهذا استدرك الدار قطني على مسلم هذا الحديث .
الثانية أنَّه موقوف على أبي بردة من قوله ، وقد تفرَّد برفعه بكير بن الأشج بينما رواه عدد كبير من الرواة عنه موقوفاً ، ولهذا جزم الدار قطني بأنَّ الموقوف هو الصواب .
إذاً لا يصحّ الاستدلال به لأنَّه قول تابعي ..!
القول الثاني : أنها آخر ساعة بعد العصر ، وهذا قول عبد الله بن سلام وأبي هريرة والإمام أحمد نقل عنه الترمذي أنه قال : ( أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعوة أنها بعد صلاة العصر ) ، وهو قول أكثر السلف واختاره الشيخ ابن باز – رحمه الله – .
وهو الراجح لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – ، وتؤيده أحاديث أخر جاءت في معناه .
منها حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ– رضي الله عنه – ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” التَمِسُوا السَّاعَةَ الَّتِي تُرْجَى فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ بَعْدَ العَصْرِ ، إِلَى غَيْبُوبَةِ الشَّمْسِ ” رواه الترمذي والطبراني وقال الألباني حسن لغيره .
ومنها حديث جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ– رضي الله عنه – ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: « يَوْمُ الْجُمُعَةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَاعَةً، لَا يُوجَدُ فِيهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا آتَاهُ إِيَّاهُ، فَالْتَمِسُوهَا آخِرَ سَاعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ » رواه ابو داود والنسائي واللفظ له والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم . قال الألباني وهو كما قال (1) .
ومنها حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ– رضي الله عنه – ، قَالَ: قُلْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ: إِنَّا لَنَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ: ” في يَوْمِ الْجُمُعَةِ [1]سَاعَةً لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا قَضَى لَهُ حَاجَتَهُ ” . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَشَارَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ » ، فَقُلْتُ: صَدَقْتَ، أَوْ بَعْضُ سَاعَةٍ. قُلْتُ: أَيُّ سَاعَةٍ هِي؟ قَال: « هِيَ آخِرُ سَاعَاتِ النَّهَارِ » . قُلْتُ: إِنَّهَا لَيْسَتْ سَاعَةَ صَلَاةٍ، قَالَ: « بَلَى. إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا صَلَّى ثُمَّ جَلَسَ، لَا يَحْبِسُهُ إِلَّا الصَّلَاةُ، فَهُوَ فِي الصَّلَاةِ » رواه ابن ماجه وقال الألباني حسن صحيح .
فهذا هو القول الصحيح لأنَّ أحاديثه صحيحة ، ولأنَّه لم يُختلف في رفعها ، فلا يُلتفت إلى غيره ..
قال الألباني – رحمه الله – : ” وهو الصواب عندي ، لأن أحاديث الباب عليه ، وما خالفها فليس فيها شيء صحيح [2]” .
قال : ” وقد صحَّ اتفاق الصحابة أنها آخر ساعة من يوم الجمعة ، فلا يجوز مخالفتهم ” (1) .
ويعني باتفاق الصحابة الحديث الذي رواه سعيد بن منصور عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ” أنَّ أُناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعوا ، فتذاكروا الساعة التي في يوم الجمعة ، فتفرَّقوا ولم يختلفوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة ” . قال الحافظ في الفتح : إسناده صحيح .
هذا هو القول الراجح الذي أردت بيانه ، فإني رأيت بعض طلبة العلم يحكون الخلاف ولا يعرفون القول الصحيح فيبينونه للناس ..!
فعلى المسلم من رجل أو امرأة أن يعتني بهذه الساعة وأن يجتهد في الدعاء فيها .
— السلف وعصر يوم الجمعة :
كان المفضل بن فضالة إذا صلى عصر يوم الجمعة ، خلا في ناحية المسجد وحده ، فلا يزال يدعو حتى تغرب الشمس .
وكان طاوس بن كيسان إذا صلى العصر يوم الجمعة ، استقبل القبلة ، ولا يكلم أحداً حتى تغرب الشمس .
يقول أحد الصالحين : ” ما دعوت الله بدعوة بين العصر والمغرب يوم الجمعة ، إلا استجاب لي ربي حتى استحييت ” .
ذكر ابن عساكر في كتابه : ” أصاب العمى الصلت بن بسطام ، فجلس إخوانه يدعون له عصر الجمعة ، وقبل الغروب عطس عطسه ، فرجع بصره ” . تاريخ دمشق .
[2](1) –صحيح الترغيب والترهيب : الألباني ( 1/440 ) .
اترك تعليقاً