ما زال حديثنا مستمراً عن الأئمة ، وحديثا اليوم عن إمام جهبذ ، عن الإمام الترمذي ..
اسمه :
هو الإمام الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضَّحَّاك السُّلمي الترمذي .
مولده :
ولد سنة 209 هـ ، بترمذ ، وهي مدينة جنوب أوزبكستان وكانت سابقاً موصولة مع هرات الأفغانية .
شيوخه :
الترمذي حينما بدأ في الطلب ، حرص على التلقي عن كبار الشيوخ الذين استطاع السماع منهم في ذلك الوقت ، ومن كبار شيوخه : الشيخان ؛ البخاري ومسلم ، وأبو داود كذلك ، وكذلك أيضاً قتيبة بن سعيد ، وعلي بن حجر السعدي ، وأحمد بن منيع البغوي ، وعمرو بن علي الفلاس ، وهنَّاد بن السَّري ، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي صاحب السنن ، وأبو زرعة الرازي ، وغيرهم من أكابر العلماء ، كل هؤلاء من شيوخه – رحمه الله – .
تلاميذه :
أخذ عنه الحديث خلق كثير منهم ؛ محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبي راوي الجامع عنه ، وأبو حامد أحمد بن عبد الله المروزي ، والهيثم بن كليب الشاشي ، ومحمد بن المنذر بن شكر ، وغيرهم .
عبادته :
كان الترمذي – رحمه الله – إلى جانب الطلب والتلقي ، صاحب عبادة فقد وصف بالورع والزهد والعبادة ..
قال عمر بن عَلّك : مات البخاري فلم يُخلِّف بخراسان مثل أبي عيسى في العلم والحفظ والورع والزهد ، بكى حتى عمي وبقي ضريراً سنين .
مؤلفاته:
للترمذي – رحمه الله – مؤلفات كثيرة ، ومن أشهرها السنن ، وقد اختلف العلماء في تسميته ، فنجد منهم من سماه بــ ( صحيح الترمذي ! ) ، ومنهم من سماه بــ ( الجامع الصحيح ! ) ، ونجد أن الكتاب طبع بهذين الاسمين في عدة طبعات ، ومن جملة هذه الطبعات التي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر – رحمه الله – ، وهي متداولة في الأيدي الآن ، نجد أن اسم هذا الكتاب في هذه الطبعة هكذا ( الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي ! ) .
فهل إطلاق هذه اللفظة : ( صحيح ) على كتاب الترمذي صواب أو لا ؟ الحقيقة أن هذا الإطلاق خطأ ؛ لأننا نجد في كتاب الترمذي الصحيح والحسن والضعيف والمنكر بل حتى الموضوع ، ولذلك هذه التسمية لا تناسب موضوع الكتاب ، ولم يزعم الترمذي ذلك – رحمه الله – .
ولذلك يقول الذهبي – رحمه الله – : في ( الجامع ) علم نافع ، وفوائد غزيرة ، ورؤوس المسائل ، وهو أحد أصول الإسلام ، لو لا ما كدَّره بأحاديث واهية ، بعضها موضوع ، وكثير منها في الفضائل .
ويقول أيضاً : انحطَّت رتبة جامع الترمذي عن سنن أبي داود والنسائي لإخراجه حديث المصلوب ، والكلبي ، وأمثالهما .
والمصلوب : هو محمد بن سعيد بن قيس المصلوب في الزندقة ، وهو ممن اتفق العلماء على أنه من الكذابين الوضَّاعين للحديث .
والكلبي : هو محمد بن السائب الكلبي ، وأيضاً هو أحد المشهورين بالكذب ووضع الحديث .
والترمذي – رحمه الله – يُخرج حديث مثل هذين الرجلين ، ولذلك لا ينبغي إطلاق الصحة على مثل هذا الكتاب .
وكذلك أيضاً صنيع الترمذي نفسه في نقده للأحاديث التي يُعلُّها في كثير من الأحيان ، يدل على أنه لم يقصد التأليف في الصحيح المجرد .
ومنهم من سماه – كتاب الترمذي – ( الجامع الكبير ) كما ذكر ذلك الكتّاني في ” الرسالة المستطرفة ” ، وهذه التسمية قليلة الاستعمال ، ولكن الاستعمال الكثير للتسمية التي تلي هذه وهي التسمية بــ ( السنن ) ، نجد كثيراً من الناس مَن يُسمون كتاب الترمذي بهذا الاسم ( كتاب السنن ) ، وهذه التسمية يمكن أن تكون سائغة ، وإنما سمي بهذه التسمية لاشتماله على أحاديث الأحكام مرتَّبة على أبواب الفقه .
ونجد منهم مَن سمَّاه بــ ( الجامع ) ، وهذا أصوب ، لأنَّ الكتاب اشتمل على الأحكام وغير الأحكام ، كالتفسير ، والعقائد ، والفتن ، والمناقب ، وأشراط الساعة ، وغيرها .. وهذه الكتب كلها موجوده في كتاب الترمذي .
فبناءً على تقييد السنن على أنها الكتب التي أُلِّفت في معظم أبواب الدين ، وأنَّ الجوامع هي الكتب التي أُلِّفت لتضمّ جميع أبواب الدين ، يتَّضِح الفرق .
ولكن هذه التسمية – تسمية الكتاب بــ ( الجامع ) – نجد أنها مختصرة من الاسم الصحيح للكتاب ، فاسم الكتاب الحقيقي هو الآتي :
( الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل ) .
هذه التسمية جاءت صريحة على بعض النسخ الخطية الجيدة لهذا الكتاب .
منهج الترمذي في هذا الكتاب :
وقد ذكروا أن الترمذي – رحمه الله – تأثر بشيخيه : البخاري ومسلم في تأليفه لهذا الكتاب ، ولذلك حاول أن يجمع بين طريقتيهما ، ومعلوم أن البخاري له طريقة ، ومسلماً له طريقة ، فالبخاري يركز على ( الناحية الفقهية ) ، ومسلم يركز على ( الناحية الحديثية ) ، والترمذي أراد الجمع بين هاتين الطريقتين ، بالجمع بين ( الصناعة الحديثية والصناعة الفقهية ) ، ولأجل هذا نجد أن العلماء – رحمهم الله تعالى – أُعجبوا بصنيع الترمذي في كتابه ، حينما جمع بين الطريقتين بين ( الصناعة الحديثية ) وبين ( الناحية الفقهية ) .
فيقول ابن رشد : إن كتاب الترمذي تضمن الحديث مصنفاً على الأبواب ، وهو علم برأسه – أي هو علم مستقل – ، والفقه وهو علم ثاني ، وعلل الحديث ، ويشتمل على بيان الصحيح من السقيم وما بينهما من المراتب وهو علم ثالث ، والأسماء والكنى وهو علم رابع ، والتعديل والتجريح وهو علم خامس ، ومن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يدركه ممن أسند عنه في كتابه وهو علم سادس ، وتعديد من روى ذلك الحديث وهو علم سابع .
يقول ابن رشد : هذه علومه المجملة ، وأما التفصيلية فمتعددة ، وبالجملة فمنفعته كثيرة ، وفوائده غزيرة .
وكذلك أبو بكر العربي – رحمه الله – شرح الترمذي في كتاب سماه ” عارضة الأحوذي ” ، وعقد فصلاً عدد فيه فوائد هذا الكتاب ، فمن جملة ما قال في هذا الفصل :
وليس فيها – يقصد في كتب الحديث – مثل كتاب أبي عيسى حلاوة مقطع ، ونفاسة منزع ، وعذوبة مشرع ، وفيه أربعة عشر علماً :
فهو قد صنف وأسند ، وصحح وأسقم ، وعدد الطرق ، وجرَّح وعدَّل ، وأسمى وأكنى ، ووصل وقطع ، وأوضح المعلول به والمتروك ، وبيَّن اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره ، وذكر اختلافهم في تأويله ، وكل علم من هذه العلوم أصلٌ في بابه ، وفرد في نصابه . فالقارئ له لا يزال في رياض مونقة ، وعلوم متدفقة متسقة .
وهذه الفوائد التي أشار إليها أبو بكر العربي وابن رشد – رحمهما الله تعالى – نجد أنها في مجملها تعود إلى أمرين :
الأمر الأول : الصناعة الحديثية … والأمر الثاني : فقه الحديث .
وهذا هو الذي أشرت إليه فيما سبق من أنه جمع بين طريقتي شيخيه البخاري ومسلم .
ومن مزايا الترمذي في كتابه ، أنه يذكر أقوال أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة الأمصار ، فيُعدّ كتابه مصدراً فقهياً أصيلاً يُرجع فيه لأقوال أهل العلم في المسائل الفقهية .
ومنهجه في ذلك أنه يذكر أقوال الصحابة واختلافهم بعد روايته للحديث ، ثم يذكر أقوال التابعين ومن بعدهم مثل محمد بن سيرين ، والأوزاعي ، والثوري ، وابن المبارك ، وكذلك يذكر قول أهل المدينة ، وقول أهل الكوفة ، ثم يذكر قول أئمة الفقه من أصحاب المذاهب ، خاصة مالك والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه – رحمهم الله تعالى – .
فهو يُعنى بإيراد أقوال أهل العلم ، وربما أورد اختلافهم ورجَّح بعد ذلك ، بقوله : ” والتوقيت أصح ” ، وربما قال : ” وهذا الذي عليه العمل ” ، ونحو هذه العبارات التي تدل على ترجيحه – رحمه الله – كما مثلنا لذلك .
وبالجملة فكتاب الترمذي كتاب قيِّم ، إلا أنه ينبغي ألا يُقرأ فيه إلا من نسخة محققة الأحاديث ، ليعرف القارئ صحيحه من ضعيفه – وقد حققه الألباني – .
وللكتاب شروح من أفضلها : ” تحفة الأحوذي ” للمباركفوري ، و ” عارضة الأحوذي ” للقاضي أبي بكر بن العربي .
وفاته :
توفي الترمذي – رحمه الله – بترمذ سنة 279 هــ ، عن سبعين عاماً . ( 1 ) .
( 1 ) – انظر : مناهج المحدثين ؛ سعد الحميد ( ص : 78 وما بعدها ) .
اترك تعليقاً